هل يجوز التوسل بقدم الله تعالى، كنوع من التوسل والتذلل لله تعالى، كنوع من أن أهل السنة لا ينكرون أن لله قدم تعالى؟
الحمد لله.
أولًا:
روى البخاري (6661)، ومسلم (2848) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد، حتى يضعَ ربُّ العزة فيها قدَمَه، فتقول: قَطْ قَطْ وعِزَّتِك، ويُزوى بعضها إلى بعض، فبهذا الحديث المتفق عليه وغيره؛ أثبت أهل السنة والجماعة (القَدَم) صفةً لله تعالى.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (الكرسي موضع القدمين ، والعرش لا يقدر أحد قدره)، وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: (الكرسي موضع القدمين، وله أطيطٌ كأطيطِ الرَّحْل)، وبهذين الأثرين يثبت أهل السنة القَدمَين لله تعالى، ويراجع للفائدة جواب السؤال: (166843).
ثانيًا:
التوسل إلى الله تعالى هو: التقرب إليه، وأن يتّخذ العبد سببًا هو وسيلته التي توصله إلى مطلوبه عنده تعالى.
قال الأزهري في "تهذيب اللغة" (13/66):
"قال اللَّيث: وَسَّلَ فلانٌ إلى ربه وسيلةً: إذا عمل عملًا تقرَّب به إليه ... والوسيلة: الوُصْلة والقُربى، وجمعها الوسائل، قال الله: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ، ويقال: توسَّل فلان إلى فلان بوسيلة، أي: تسبَّب إليه بسببٍ، وتقرَّب إليه بحرمةِ آصرةٍ، تعطفه عليه"، انتهى مختصرًا.
فالتوسل بالشيء إلى الله، هو: أن يتخذ العبد هذا الشيء موصِّلًا ومقرِّبًا إلى الله، فيجعله وسيلته، أي: وُصلتَه وقربانه إلى الله لبلوغ مراده، وقد أرسل الله تعالى الرسل وأنزل الكتب لبيان الأسباب والوسائل الموصلة إليه تعالى وإلى عطائه سبحانه.
ومن هذا المشروع الذي جاء به الرّسل: اتخاذ صفات الله تعالى سببًا ووسيلةً للوصول إلى ثواب الله ورحمته وسائر ما يطلبه العبد من الله تعالى، ومعنى التوسل بها: أن يذكُرَها العبدُ في دعائه وطلبه من الله تعالى، ليكون أحرى أن يستجاب له.
لكن ينتبه إلى أن الوارد من ذلك هو: التوسل بصفة الله تعالى المناسبة لمطلوب العبد، وليس بصفة غير مناسبة، وإلا كان لغوًا، أو تعدِّيًا.
فمنه دعاء موسى عليه السلام متوسلًا برحمته تعالى: وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، فإن طلب النجاة من تسلط وإفساد فرعون ومن وعيده أن يقتِّل ويصلِّب المؤمنين؛ يناسبه التوسل بصفة رحمة الله تعالى بذكرها في الدعاء.
ومما جاء في السُّنة:
حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه المشهور، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ... رواه أحمد (18325)، وصححه الألباني في "صحيح النسائي" (1305).
فإن ذِكْر: علم الله تعالى بالغيب، وقدرة الله تعالى على الخلق؛ يناسبهما المطلوب المستقبلي الذي يجهل العبد محل الخير فيه من الشر، ويناسب طلب العبد أن يخلق الله له حياة أو موتًا، وفق علمه تعالى بالغيب.
ومنه دعاء الاستخارة الذي رواه البخاري (6382)، وفيه: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك ، فإن ذكْرَ صفة العلم تناسب طلب المستخير للأصلح الذي يجهله، وذكر صفة القدرة تناسب طلب استمداد القدرة على فعل ما يريد الإقدام عليه، فإنه لا قوة إلا بالله.
قال العيني في "شرح أبي داود" (5/450): "قوله: (أستخيرك) أي: أطلب منك الخير فيما هممتُ به، وأن تخير لي أصلح الأمرين، أي: تختاره، لأنك عالمٌ به وأنا جاهل. قوله: (وأسْتقدرك) أي: أطلب أن تقدر لي أصلح الأمرين، أو أطلب منك القدرة على ما نويتُه، فإنك قادر على إقدارِي عليه أو تقدر لي الخير بسبب قدرتك عليه، والباء للسببيّة في الموضعين"، انتهى.
ونحو ذلك كثير، والمعنى في كل ذلك: اللهم إني أتخذ صفة كذا وسيلتي ووُصلتي إليك، فأعطني كذا يا رب، مما يناسب هذه الصفة، إذ هو من آثارها ومقتضياتها المرجوة.
والتوسل عبادة، والعبادات كلها توقيفية، فلا يجوز التعدي فيها إلى غير الوارد، ولذلك نص أهل العلم على أن المشروع الوارد في التوسل بصفات الله تعالى أمران، أو وجهان، كما قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
"التوسل إلى الله تعالى بصفاته، وهو أيضًا كالتوسل بأسمائه على وجهين:
الوجه الأول: أن يكون عامًّا كأن تقول: اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا، ثم تذكر مطلوبك.
الوجه الثاني: أن يكون خاصًّا، كأن تتوسل إلى الله تعالى بصفة معينة خاصة لمطلوب خاص، مثل ما جاء في الحديث (اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق؛ أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرًا لي)، فهنا توسلَ لله تعالى بصفة (العلم) و(القدرة)، وهما مناسبتان للمطلوب"، انتهى من "مجموع فتاوي ابن عثيمين" (2/ 336).
وكون التوسل بذكر أسماء الله وصفاته في الدعاء، إنما يكون بذكر المناسب من الأسماء والصفات للمطلوب؛ هذا أمرٌ بيِّن ظاهر، وهو الوارد كما سبق شرحه، وهو المعقول أيضًا، فليس معقولًا أن يتوسل الإنسان بصفة (غضب الله) فيذكرها في دعائه وهو يطلب لنفسه الرحمة، مثالًا.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن التوسل باسمٍ خاصٍّ من أسماء الله تعالى:
"وفي هذا النوع يجب أن يكون الاسم مناسبًا للدعاء، فإذا أردتَ أن تسأل الله الرزق تقول: يا رزاق، والمغفرة: يا غفور، والعفو: يا عفو، وهكذا.
لكن لو قلت: اللهم يا شديد العقاب اعف عني، فهذا غير مناسب، فكيف تتوسل باسم يدل على العقوبة إلى عفو الله عز وجل؟ إنما تدعو الله تعالى بالأسماء المناسبة لما تدعو به"، انتهى من "مجموع فتاويه" (5/281).
وهذا في الصفات مثل الأسماء، والشأن في التوسل واحد.
ثالثًا:
إذا تبيَّن أن المشروع هو التوسل بذكر اسم لله تعالى أو صفة من صفاته، مما يناسب المطلوب، فالتوسل بقدَم الله تعالى ليس مما ورد التعبد به توسلًا، ولا يظهر أن ذكر هذه الصفة مناسب لطلب العفو أو الرحمة أو الجنة أو الرزق، أو فيه إظهار التذلل أو نحوه، فالتوسل بها من قبيل المحدَثات والبدع التي لا ترجع إلى أصل صحيح يدل عليها، وأدنى ما فيها أنها من التكلف والتقعر المذموم؛ فينبغي تجنبه، وهذا لا ينفي وجوب الإيمان بقَدَم الله تعالى صفةً من صفاته تعالى، لكن الواجب الوقوف عند ذلك، وعدم التجاوز إلى تعبد غير وارد ولا يدل عليه دليل، ولا له معنًى معقول.
وفي الصفات الذاتية والفعلية الثابتة لله تعالى متَّسع للتعبد بها، وذِكْرها في الدعاء توسلًا بها، بعد تعلم معانيها، وبعض هذه الصفات مما ينكره أهل البدع أيضًا، كصفة النزول، فإنه يناسب التوسل بها بذكرها في الدعاء، كأن يقول الداعي:
اللهم إنك تَنزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر تقول: "من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له"؛ اللهم فاغفر لي وتب عليَّ، ويذكر ما يشاء من الطلب، والحديث رواه البخاري (1145)، ومسلم (758).
وأما ما في السؤال من إرادة التذلل لله تعالى؛ فالذي يناسبه من أنواع التوسل، هو التوسل بذكر حال العبودية، والفقر والحاجة والضعف، مثل قول موسى عليه السلام: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ، وقول أيوب عليه السلام: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وتراجع للفائدة إجابة السؤال: (318430).
والله أعلم.