الحمد لله.
أولاً:
إن كان سور المسجد محيطاً بجميع البقعة، فالبقعة كلها من المسجد.
وقد نقل الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله، عن ابن المنيِّر قوله:
" والفرق بين الحريم والرحبة أن لكل مسجد حريما وليس لكل مسجد رحبة، فالمسجد الذي يكون أمامه قطعة من البقعة هي الرحبة وهي التي لها حكم المسجد. والحريم هو الذي يحيط بهذه الرحبة وبالمسجد، وإن كان سور المسجد محيطا بجميع البقعة فهو مسجد بلا رحبة، ولكن له حريم كالدور. انتهى. ملخصا".
ثم قال ابن حجر:
"وسكت عما إذا بنى صاحب المسجد قطعة منفصلة عن المسجد؛ هل هي رحبة تعطى حكم المسجد؟ وعما إذا كان في الحائط القِبلي من المسجد رِحاب، بحيث لا تصح صلاة من صلى فيها خلف إمام المسجد، هل تعطى حكم المسجد؟
والذي يظهر: أن كلا منهما يعطى حكم المسجد، فتصح الصلاة في الأولى، ويصح الاعتكاف في الثانية.
وقد يفرق حكم الرحبة من المسجد، في جواز اللغط ونحوه فيها، بخلاف المسجد مع إعطائها حكم المسجد في الصلاة فيها. فقد أخرج مالك في الموطأ من طريق سالم بن عبد الله بن عمر قال: بنى عمر إلى جانب المسجد رحبة فسماها البطحاء فكان يقول: من أراد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوتا فليخرج إلى هذه الرحبة" انتهى من "فتح الباري" (13/ 156).
وجاء في فتوى اللجنة الدائمة الفتوى رقم: (19080):
"ما كان داخل سور المسجد فهو من المسجد، وله حكم المسجد، فرحبة المسجد من المسجد، ومكتبة المسجد من المسجد، إذا كان كل منهما داخل سور المسجد، إلا أنه لا يجوز لأحد أن يصلي فيهما ويترك الصلاة مع الإمام جماعة، بل يجب عليه أن يصلي مع الجماعة ضمن الصفوف التي خلف الإمام" انتهى.
والحاصل:
أن البقعة التي يحيط بها سور المسجد: كلها من المسجد، حتى وإن تخللتها رحبة للسيارات؛ فإن هذا الرحبة لها حكم المسجد، وإن كان أمرها أخف، من حيث صيانتها عن القذى، ونظافتها، فإنها لم تفرش، ولم تهيأ للصلاة عادة، وإنما هي من جملة منافع المسجد، ومرافق المصلين فيه.
وعلى ذلك؛ فمصلى النساء الذي يلي هذه الرحبة، هو من جملة المسجد، أيضا.
ثانياً:
تصح صلاة النساء في المكان المخصص لهن، ولو كان يفصل بينه وبين صفوف الرجال مساحة كبيرة أو مواقف سيارات ما دام مصلاهن داخل سور المسجد ويسمعن التكبير.
وقد اتفقت المذاهب الأربعة على أنه يصح الاقتداء بالإمام، إذا كان المأموم يرى الإمام، أو من وراء الإمام، أو يسمع التكبير وهما في مسجد واحد، وإن بعدت المسافة .
انظر: "الفتاوى الهندية" (1/88)، و"مغني المحتاج" (1/248)، و"كشاف القناع" (1/491)، الدسوقي (1/337)، "الموسوعة الفقهية الكويتية" (6/23).
وقد سئل الشيخ لابن عثيمين رحمه الله: ما حكم صلاة النساء في المساجد التي لا يرين فيها الإمام ولا المأمومين وإنما يسمعن الصوت فقط؟
فأجاب: "يجوز للمرأة، وللرجل أيضا: أن يصلي مع الجماعة في المسجد، وإن لم ير الإمام ولا المأمومين، إذا أمكن الاقتداء. فإذا كان الصوت يبلغ النساء في مكانهن من المسجد، ويمكنهن أن يقتدين بالإمام؛ فإنه يصح أن يصلين الجماعة مع الإمام؛ لأن المكان واحد، والاقتداء ممكن، سوء كان عن طريق مكبر الصوت ، أو عن طريق مباشر بصوت الإمام نفسه ، أو بصوت المبلغ عنه ، ولا يضر إذا كن لا يرين الإمام ولا المأمومين.
وإنما اشترط بعض العلماء رؤية الإمام أو المأمومين، فيما إذا كان الذي يصلي خارج المسجد، فإن الفقهاء يقولون: يصح اقتداء المأموم الذي خارج المسجد، إن رأى الإمام أو المأمومين.
على أن القول الراجح عندي: أنه لا يصح للمأموم أن يقتدي بالإمام في غير المسجد، وإن رأى الإمامَ المأمومُ، إذا كان في المسجد مكان يمكنه أن يصلي فيه. وذلك لأن المقصود بالجماعة الاتفاق في المكان، وفي الأفعال. أما لو امتلأ المسجد، وصار من كان خارج المسجد يصلي مع الإمام ويمكنه المتابعة، فإن الراجح جواز متابعته للإمام وائتمامه به، سواء رأى الإمام أم لم يره، إذا كانت الصفوف متصلة...". "مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (15/213). وانظر: فتوى رقم: (93369).
ثالثا:
لا يؤثر في صحة الصلاة كون مواقف السيارات متخللا بين مسجد الرجال، ومصلى النساء، فإنها من جملة منافع المسجد، وقد سبق أن رحبة المسجد، لها حكم المسجد.
قال النووي رحمه الله : "للإمام والمأموم في المكان ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يكونا في مسجد فيصح الاقتداء ، سواء قربت المسافة بينهما ، أم بعدت لكبر المسجد ، وسواء اتحد البناء أم اختلف ، كصحن المسجد ، وصُفَّتِه ، وسرداب فيه ، مع سطحه وساحته ، والمنارة التي هي من المسجد : تصح الصلاة في كل هذه الصور وما أشبهها ، إذا عَلم صلاة الإمام ، ولم يتقدم عليه ، سواء كان أعلى منه أو أسفل .
ولا خلاف في هذا. ونقل أصحابنا فيه إجماع المسلمين...إلخ" انتهى من "المجموع" (4/195) .
وقال المرداوي في "الإنصاف" (2/293) : "... فإن كان المأموم في المسجد : فلا يشترط اتصال الصفوف ، بلا خلاف . قاله الآمدي ، وحكاه المجد إجماعاً" انتهى .
وانظر: فتوى رقم: (274939).
وقد سئلت اللجنة الدائمة (6/260)، الفتوى رقم: (18157):
جرى بناء مسجد من قبل فاعل خير تحت إشرافي، وقد كان بناء المسجد على النحو الآتي:
1 - مقدمة المسجد بطول خمسة عشر مترا في عرض عشرين مترا (20× 15) وهو مسقوف.
2 - سرحة المسجد خلف المقدمة مباشرة، ومساحتها (20 ×10) وغير مسقوفة.
3 - مصلى النساء خلف السرحة مباشرة، ومساحتها (13× 5) إضافة إلى دورة مياه خاصة بالنساء في زاوية المسجد، وملاصقة لمصلى النساء وللمصلى مدخل خاص ويضم الجميع السور الخارجي للمسجد.
أما دورة المياه للرجال فهي خارجة ومنفصلة عن المسجد، وقد أشكل الأمر حيال مصلى النساء، هل يسوغ صلاتهن فيه مع وجود الفاصل بين مصلاهن ومصلى الرجال؟ علما بأن الفاصل هو سرحة المسجد، وداخل سوره، وقد يصلى في السرحة في الصيف، وقد يصلى فيها الجمعة عند امتلاء المسجد، وكذلك مصلى النساء، قد يصلى فيه في الجمعة لكثرة المصلين؛ لذا نأمل من سماحتكم الإفتاء في الموضوع، حيث إن المسجد الآن على وشك الانتهاء وفي طور التشطيب.
الجواب:
لا بأس بصلاة النساء في المصلى المخصص لهن، ولو كان يفصل بينه وبين صفوف الرجال مساحة كبيرة، ما دام مصلاهن داخل المسجد ويسمعن التكبير، وهذا أستر لهن وأبعد عن مخالطة الرجال" انتهى.
فالضابط في صحة الاقتداء هو كون المكان المخصص للنساء في المسجد، مع إمكان سماع التكبير أو رؤية بعض الصفوف، وإن حصل الفصل بالساحة أو مواقف السيارات.
والله أعلم.