أريد سؤالكم بشأن معنى الهجر الجميل في قوله تعالى ( واهجرهم هجراً جميلاً).
والسؤال الآخر مرتبط بنفس الآية:
هل يجوز الهجر الجميل للزوج إذا كان يتعدى بالألفاظ المسيئة، ويكثر من اللعن لي، مع العلم تحدثت معه بشأن هذا الأمر، ويخبرني أنه لن يكرر هذه الألفاظ مجدداً، إلا إنه يعود مرة أخرى، فهل لي الحق بأن أهجره هجراً جميلا هذا؟
الحمد لله.
أولاً:
الهجر الجميل: هو الهجر من غير أذى ولا عتاب، والصبر على ما يأتي من الطرف الآخر من إساءة وتجاوز.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) المزمل/ 10.
"يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم، بالصبر على ما يقوله من كذبه من سفهاء قومه، وأن يهجرهم هجرا جميلاً، وهو الذي لا عتاب معه" انتهى من "تفسير ابن كثير" (8/ 256).
وقال الشيخ السعدي رحمه الله: "الهجر الذي لا أذية فيه" "تفسير السعدي" (ص893).
وقال الطاهر ابن عاشور رحمه الله:
"فالهجر الجميل: هو الذي يقتصر صاحبه على حقيقة الهجر، وهو ترك المخالطة، فلا يقرنها بجفاء آخر أو أذى" انتهى من "التحرير والتنوير" (29/ 268).
ثانياً:
الزوج الذي يكثر اللعن والشتم، لا شك أنه مخالف لما أمر الله به ورسوله من حسن العشرة، وحسن معاملة الزوجة.
قال الله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) النساء/ 19.
قال الجصاص رحمه الله:
"أمر للأزواج بعشرة نسائهم بالمعروف، ومن المعروف أن يوفيها حقها من المهر والنفقة والقسم، وترك أذاها بالكلام الغليظ، والإعراض عنها، والميل إلى غيرها، وترك العبوس والقطوب في وجهها بغير ذنب، وما جرى مجرى ذلك، وهو نظير قوله تعالى: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" انتهى من "أحكام القرآن للجصاص" (2/ 138).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) رواه الترمذي (3895) وصححه الألباني.
ثالثاً:
إذا تعدى الرجل على زوجته بالسب والشتم وسوء العشرة، فعليها أن تقدر الأمور قدرها، ولا تتجه للهجر، إلا إذا رأت وغلب على ظنها أنّ ذلك سيردعه، أو يخفف من أذاه لها؛ فلا باس بالهجر في الكلام والمؤانسة، ونحو ذلك.
فقد صح أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كنّ يهجرنه اليوم كله، لما جبلهن الله عليه من غيرة النساء، وتنسافهن فيما بينهن على القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحظوة عنده.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: دخلت على حفصة. فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: نعم. فقلت: أتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم. قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر. أفتأمنُ إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم. فإذا هي قد هلكت" رواه مسلم مطولاً (1479).
وكان رسول الله يحلم عليهن، ويقبل منهن، ويتجاوز عنهن، لما جبله الله عليه من كريم الأخلاق وحسن الطباع.
لكن يشترط في ذلك الهجر: ألا يكون فيه منع لحق الزوج، ولا معصية له فيما شرعه الله له من حق.
قال القاضي عياض رحمه الله:
"وفيه أن هجرانهن له لم يكن في منع حق له عليهن، وإنما كان في ترك الكلام، والإعراض، وتيسير الوجه، بما طُبعن عليه من ذلك، وحملتهن عليه الغيرة" انتهى من "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (5/ 43).
وأما إذا كان الهجر سيزيد المشكلة، ويزيد الوضع سوءًا، أو يلقي البِغضة بين الزوجين: فالحكمة عدم فعله؛ لأنّ الهجر المشروع إنما يكون حيث تتحقق المصلحة منه.
رابعاً:
أما هجرها له في الفراش إذا طلبها للجماع، فهذا جاء فيه الوعيد الشديد. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا الْمَلاَئِكَةُ حَتَّى تُصْبِح) رواه البخاري (4898)، ومسلم (1436). والمراد بهجر الفراش هنا إذا طلبها للجماع.
قال العيني رحمه الله: "قوله: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه) كناية عن الجماع" انتهى من "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (20/ 184).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
ولا يتجه عليها اللوم إلا إذا بدأت هي بالهجر، فغضب هو لذلك. أو هجرها وهي ظالمة، فلم تستنصل من ذنبها وهجرته. أما لو بدا هو بهجرها ظالما لها، فلا: "فتح الباري" (9/ 294).
وبعض أهل العلم يرخص لها في هذا الهجر، إذا منعها حقها.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرحه للحديث:
"والحاصل: أن هذه الألفاظ التي وردت في هذا الحديث هي مطلقة، لكنها مقيدة بكونه قائماً بحقها.
أما إذا لم يقم بحقها، فلها أن تقتص منه، وأن تمنعه من حقه مثل ما منعها من حقها؛ لقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) وقوله: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ)" انتهى من "شرح رياض الصالحين" (3/ 142).
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله:
عن هجر المرأة لزوجها ؟
فأجاب: "ليس لها أن تهجره إلا بحق، الواجب عليها السمع والطاعة في المعروف. إلا إذا لم يؤد حقها"، انتهى
وقال: "لا يجوز لها هجر زوجها، إذا هجرته لعنتها الملائكة حتى تصبح، إلا بحق، إذا كان بحق؛ تطالب بحقها، إذا قصّر في حقها تخرج إلى أهلها وتطلب حقها.
أما إذا كان قائمًا بحقها ما يجوز لها" انتهى
وبكل حال:
فالنصيحة لك أن تدعي الهجر في الفراش، لشدة الوعيد فيه، بل النصيحة أن تدعي الهجر كله لزوجك، وأن تجتهدي في التحبب إليه، ووعظه ونصحه بطيب الكلام وحسن الخلق. وفي الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ) الترمذي (2002) وصححه الألباني
والله أعلم.