عندما أصيب والدي بجلطة، قالت خالتي لوالدتي: أن تتصدّق بشاة، وقالت: "حياة مقابل حياة"، هل هذا القول يُسَبِّبُ أيُّ مشكلة في الإيمان أم أنه صحيح؟
وإذا قالت والدتي شيئًا مثل: "حسنًا، إذا تعافى، سأتصدّقُ بشاة"، هل يُعتبر ذلك نذرًا أم مجرد نيَّة؟
الحمد لله.
أولا:
الصدقة فضلها عظيم، ولها أثر في دفع البلاء.
قال ابن القيم رحمه الله: "فإن للصدقة تأثيراً عجيباً في دفع أنواع البلاء ولو كانت من فاجر أو من ظالم بل من كافر، فإن الله تعالى يدفع بها عنه أنواعاً من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مقرون به لأنهم جربوه.
وقد روى الترمذي في جامعه من حديث أنس بن مالك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال إن الصدقة تطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء وكما أنها تطفئ غضب الرب تبارك وتعالى فهي تطفئ الذنوب والخطايا كما تطفئ الماء النار.
وفي الترمذي عن معاذ بن جبل قال: «كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر، فأصبحت يوماً قريباً منه ونحن نسير فقال ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل شعار الصالحين، ثم تلا تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون » وفي بعض الآثار: باكروا بالصدقة، فإن البلاء لا يتخطى الصدقة" انتهى من "الوابل الصيب" ص31
وقد روى أبو الشيخ في الثواب من حديث أبي أمامة مرفوعا: (داووا مرضاكم بالصدقة) وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" برقم (3358).
ثانيا:
أما قول خالتك: حياة بحياة، فلا حرج فيه، إن كان مقصودها إطعام الفقراء وإنقاذهم من الجوع والهلاك، فمن أحيا نفسا بإطعامها أو سقيها، رجيت له الحياة؛ لأن الجزاء من جنس العمل.
وقد جاء عن ابن المبارك رحمه الله أنه "سأله رجل عن قرحة خرجت في ركبته منذ سبع سنين، وقد عالجتها بأنواع العلاج، وسألت الأطباء، فلم أنتفع به.
فقال له: اذهب، فاحفر بئرا في مكان حاجة إلى الماء، فإني أرجو أن ينبع هناك عين، ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل، فبرأ" انتهى من "سير أعلام النبلاء" (8/ 407).
وقال ابن الحاج رحمه الله في "المدخل" (4/ 141): " وآكد ما على المريض أو وليه امتثال السنة في الصدقة؛ لما ورد في الحديث عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: داووا مرضاكم بالصدقة وادفعوا البلاء بالصدقة واستعينوا على قضاء حوائجكم بالصدقة وذلك راجع إلى حال المرض والمريض، فإن كان المرض شديدا فليكثر من الصدقة، وإن كان مليا [أي غنيا] فكذلك، وإن كان فقيرا فجهد المقل؛ لحديث عائشة - رضي الله عنها - في التمرة التي تصدقت بها على المرأة ومعها ابنتان فشقتها نصفين وأعطت كل واحدة منهما نصفا.
والمقصود من الصدقة أن المريض يشتري نفسه من ربه عز وجل بقدر ما تساوي نفسه عنده " انتهى.
ونظير ذلك ما ذكره الفقهاء في حكمة "مشروعية العقيقة"؛ وأنها: (فداء) لنفس الصبي من الشيطان، وتخبطه، وأذاه للمولود؛ فتكون نفس الذبيحة التي ذبحت، تقربا إلى الله؛ فداء لنفس المولود من الأذى.
قال ابن القيم، رحمه الله: فالمرتَهنُ هو المحبوسُ، إمَّا بفعلٍ منه، أو فعلٍ من غيره، وأمَّا مَنْ لم يشفع لغيره، فلا يُقال له: مرتهنٌ على الإطلاق، بل المرتَهَنُ هو «المحبوسُ عن أمرٍ كان بصدد نَيْلهِ وحصُولهِ، ولا يَلْزمُ من ذلك أن يكونَ بسببٍ منه، بل يحصل ذلك تارةً بفِعْلِهِ، وتارةً بفعلِ غيره.
وقد جعل الله ـ سبحانه ـ النَّسِيكَةَ عن الولد سببًا لفكِّ رِهَانهِ من الشَّيطان الذي يَعْلَقُ به مِنْ حين خُروجِه إلى الدُّنيا وطَعن في خَاصِرَتِه، فكانت العَقِيقَةُ فداءً، وتخليصًا له، من حَبْسِ الشَّيطانِ لهُ وسَجْنِهِ في أسْرِهِ». انتهى، من "تحفة المودود بأحكام المولود" (105).
وقال أيضا: " لما كانت هذه الذبيحةُ جاريةً مجرى فداءِ المولودِ، كان المشروعُ فيه دمًا كاملاً لتكون نفسٌ فداءَ نفسٍ" انتهى، من "تحفة المودود" (118).
وقال الشيخ زكريا الأنصاري، رحمه الله: "الغرض من العقيقة استبقاء النفس؛ فأشبهت الدية؛ لأن كلا منهما فداء للنفس" انتهى، من "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب" (2/ 234).
وينظر أيضا للفائدة: "الفتاوى الكبرى الفقهية" (4/ 256).
ثالثا:
قول والدتك: "حسنًا، إذا تعافى، سأتصدّقُ بشاة" لا يعتبر نذرا؛ لأن النذر ما كان بلفظ النذر، أو بلفظ يفيد الالتزام، كقول الإنسان: لله علي أن أتصدق.
جاء في "الموسوعة الفقهية" (40/ 140): " صيغة النذر:
اعتبر الفقهاء في صيغة النذر أن تكون باللفظ ممن يتأتى منهم التعبير به، وأن يكون هذا اللفظ مشعرا بالالتزام بالمنذور، وذلك لأن المعول عليه في النذر هو اللفظ، إذ هو السبب الشرعي الناقل لذلك المندوب المنذور إلى الوجوب بالنذر، فلا يكفي في ذلك النية وحدها بدونه.
ويقوم مقام اللفظ الكتابة المقرونة بنية النذر، أو بإشارة الأخرس المفهمة الدالة أو المشعرة بالتزام كيفية العقود.
ولا خلاف بين الفقهاء في أن من نذر فصرح في صيغته اللفظية أو الكتابية بلفظ (النذر) أنه ينعقد نذره بهذه الصيغة، ويلزمه ما نذر.
وإنما الخلاف بينهم في صيغة النذر، إذا خلت من لفظ (النذر) كمن قال: لله علي كذا، ولم يقل نذرا، وعما إذا كان ينعقد نذره بهذه الصيغة، ويلزمه ما نذر أم لا؟ على اتجاهين:
الاتجاه الأول: يرى أصحابه أن النذر ينعقد ويلزم الناذر وإن لم يصرح في صيغته بلفظ النذر، إذا أتى بصيغة تفيد التزامه بذلك، روي هذا عن ابن عمر رضي الله عنهما إذ قال في رجل قال: عليّ المشي إلى الكعبة لله. هذا نذر فليمش، وقال بمثل قوله سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد ويزيد بن إبراهيم التيمي، وإليه ذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وحكاه ابن قدامة عن جماعة من العلماء.
وقال أصحاب هذا الاتجاه: إن عدم ذكر لفظ النذر في الصيغة لا يؤثر في لزوم النذر إذا كان المقصود بالأقاويل التي مخرجها مخرج النذر: النذر؛ وإن لم يصرح فيها بلفظ النذر.
وقالوا كذلك: إن من قال: لله علي كذا ولم يذكر لفظ النذر، فإن لفظة "عليَّ" في هذه الصيغة للإيجاب على نفسه، فإذا قال علي المشي إلى بيت الله تعالى، فقد أوجب على نفسه ذلك، فلزمه، كما لو قال: هو علي نذر.
الاتجاه الثاني: يرى من ذهب إليه أن النذر لا ينعقد إلا إذا صرح في صيغته بلفظ النذر وهو قول آخر لسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد.
واستدل أصحاب هذا الاتجاه بالمعقول، فقالوا: إن النذر إخبار بوجوب شيء لم يوجبه الله تعالى على الناذر إلا أن يصرح بجهة الوجوب" انتهى.
والحاصل: أنه لا يجب على والدتك التصدق؛ لعدم النذر، لكن الصدقة باب من المعروف عظيم، فينبغي أن تفعل ما نوت من الخير.
والله أعلم.