هل تجب إجابة من يسأل بالله أو النبي صلى الله عليه وسلم، مثل قول والنبي تفعل كذا، خاصة إنها كلمات دارجة، قد لا يعنيها الإنسان؟ وماذا إذا كان ذلك الطلب عاما في منشور أو فيديو، فيقول صاحبه: والله أو والنبي صلى الله عليه وسلم لتجربوا كذا، أو تفعلوا كذا؟
الحمد لله.
أولًا:
جاء الأمر بإعطاء من سأل بالله تعالى، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه ...) الحديث، رواه أحمد (5365) وأبو داود (5109) والنسائي (2567)، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح أبي داود" (5109).
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبرار القسم أو المُقسِم أيضًا، فعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: "أمرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع" فذكر منها: "إبرار القسم، أو المُقسِم"، رواه البخاري (5175) ومسلم (2066).
وكلٌّ من الأمر بإعطاء من سأل بالله، والأمر بإبرار من أقسم بالله؛ للاستحباب وليس الوجوب، وقد بيَّن الفقهاء – جمعًا بين أدلة الشرع وقواعده - أنه: لا يجب إبرار من أقسم على غيره بالله بل يستحب، وكذلك قالوا: لا يجب إعطاء من سأل غيرَه بالله بل يستحب.
قال البهوتي الحنبلي في "شرح المنتهى" (6/378): "ولا يلزم محلوفًا عليه إبرارُ قسمٍ، كما لا تلزم إجابةُ سؤالٍ بالله تعالى ... ويُسَنُّ إبرارُ قسمٍ، كإجابة سؤالٍ بالله تعالى"، انتهى مختصرًا.
وينظر للفائدة جواب السؤال (153727).
ثانيًا:
تختلف الأحكام الشرعية على الأقوال، باختلاف الألفاظ الصادرة من القائل، وباختلاف نيَّته وقت التلفظ بها، وخاصة في أبواب الأيمان والنذور، فقد تكون نية المتكلم أن يَحلف أو يُقسِم، وقد تكون نيته أن يحلِف على غيرَه، وقد تكون نيته مجرد الطلب من غيره من الخلق مع ذكره لله تعالى أو ذكر غيره عز وجل من الأشياء المعظَّمة شرعًا؛ شفاعةً وتوسلًا لبلوغ مراده عند المطلوب منه، ولحضّه عليه، فاللفظ والنية مؤثران في معنى قول القائل وحكمه.
ثالثًا:
قول الطالب للمطلوب منه: (سألتك بالله) له ثلاثة أحوال، بحسب نية القائل وقصده:
1- أن يقول: (سألتك بالله أن تفعل كذا أو تعطيني كذا)، وهو يقصد بذلك أن يَحلِف ويعقد اليمين لنفسه، فالباء في قوله (بالله) للقسَم.
فهذه يمين منعقدة صحيحة، يستحب إبرارها، ولا يجب كما سبق، فإن لم يُبر فعلى الحالف الكفارة، وقد اشترط الفقهاء لاستحباب إبرار قسمه: عدم وجود مفسدة فيما يطلبه الحالف.
قال الخطيب الشربيني من الشافعية: "ولو قال شخصٌ لغيره: (أقسم عليك بالله) أو (أسألك بالله لتفعلنَّ كذا)، وأراد يمينَ نفسِه؛ فيمينٌ ... ويُسَنُّ للمخاطَب إبراره فيهما، إن لم يتضمن الإبرار ارتكاب محرَّم أو مكروه، فإن لم يبره؛ فالكفارة على الحالف"، انتهى مختصرًا من "مغني المحتاج" (6/186).
2- أن يقول: (سألتك بالله) أن تفعل كذا أو تعطيني كذا، وهو يقصد بذلك أن يُحلِّف غيره، ويعقد اليمين للمخاطَب وليس لنفسه، فالباء في قوله (بالله) للقسَم أيضًا، لكن لغيره.
فهذا لغو، وليس حلفًا لا له ولا لغيره، ولا يجب على المخاطَب بذلك شيء، وهي تشبه قول بعض الناس: (حلَّفتك بالله) ونحوه.
قال العمراني الشافعي عمن قال لغيره (سألتك بالله): "إن أراد أن يعقد للمسئول بذلك يمينًا؛ لم تنعقد لأحدهما يمين؛ لأن كل واحد منهما لم يعقدها يمينًا لنفسه"، انتهى من "البيان" (10/511).
3- أن يقول: (سألتك بالله) أو (أسألك بالله) ويقصد الطَّلب والمسألة، ولا يقصد الحلف بالله، فالباء في قوله (بالله) للسَّبب لا للقسَم.
فهو يريد الطلب، ومع الطلب يناشد المخاطَب، ويتشفَّع، ويتوسَّل إليه، بتذكيره بشيء معظَّم، له حقٌّ على المخاطَب، فهو يذكِّر الشخصَ المطلوبَ منه بسببٍ ما، يحضُّه به على أن يعطيه مرادَه، وهو هنا: إيمانه بالله، كأنه يقول له: إيمانك بالله وبأوامر الله، سبب لتعطيني ما أريد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وإذا قال السائل لغيره: أسألك بالله؛ فإنما سأله بإيمانه بالله، وذلك سببٌ لإعطاء من سأله به، فإنه سبحانه يحب الإحسان إلى الخلق، لا سيما إن كان المطلوبُ كفَّ الظلم، فإنه [تعالى] يأمر بالعدل وينهى عن الظلم، وأمره أعظمُ الأسباب في حض الفاعل، فلا سبب أولى من أن يكون مقتضيًا لمسبَّبه من أمر الله تعالى"، انتهى باختصار من "قاعدة جليلة" (96: 102).
وحينئذ يكون قول الشخص لغيره: (أسألك بالله)، من التوسل والتشفع بالله تعالى إلى المخلوق، فهو يذكِّره بحق الله عليه، وهذا الحق سبب يحضه به على تحقيق مراده.
ولذلك تكلم الفقهاء عمن قال: (أسألك بالله)، وهو يريد بها الشفاعة بالله تعالى، والمناشدة به تعالى، وليس الحلف.
قال العمراني الشافعي: "إذا قال رجل لآخر: أسألك بالله ... فإن أراد بذلك الشفاعة إليه بالله؛ لم يكن يمينًا"، انتهى باختصار من "البيان" (10/511).
وقال الجويني الشافعي في "نهاية المطلب" (18/304): "وإن أراد به المناشدةَ لتقريب غرضٍ، فالذي جاء به ليس بيمين"، انتهى.
ولذلك ذكر فقهاء الشافعية: إن من قال لغيره (أسألك بالله) وأطلقَ، أي: لم ينو بها شيئًا؛ فإنها تُحمَل على (الشفاعة)، لأنها ليست هي من ألفاظ القسم الصريح، وهي أقرب إلى الشفاعة والمناشدة.
فذكر الشيخ زكريا الأنصاري الشافعي أن إطلاق كلمة (أسألك بالله) بلا نية؛ ليس يمينًا، لأنها ليست صريحة في اليمين، ثم قال: "والإطلاق محمول على الشفاعة"، كما في "أسنى المطالب" (4/241)، وكذلك قال الجويني في "النهاية" (18/305): "وإذا أطلق اللفظ، فمطلق اللفظ محمول على المناشدة، فلا يكون يمينًا".
وقد جمع الإمام الماوردي، رحمه الله، صور قول القائل: (أسألك بالله)، ونحوها، في موضع واحد، نافع مفيد. قال في "الحاوي" (15/279):
" أما قوله لغيره: أسألك بالله، أو أقسم عليك بالله لتفعلن كذا. فله فيه أربعة أحوال:
أحدها: أن يريد يمينًا لنفسه، على فعل صاحبه: فتكون يمينًا له، معلقة بفعل غيره. فإن فعل ما قال، بر الحالف، وإن لم يفعل، حنث الحالف، ووجبت الكفارة على الحالف دون المحلوف عليه..
والحال الثانية: أن يريد الحالفُ بيمينه يمينا يعقدها على المستخلف يلزمه برها وحنثها، فلا يكون يمينا للحالف؛ لأنه لم يُرِدْها. ولا تكون يمينا للمستحلِف؛ لأنه لم يحلف بها. ولأنه [إذا] لم تنعقد يمينُ المكرَه، مع حلفه؛ كانت يمينُ من لم يحلِف، أولى أن لا تنعقد.
والحال الثالثة: أن يريد بها السؤالَ والطلب، ولا يقصد بها يمينا لنفسه، ولا لصاحبه: فلا تكون يمينًا بحال.
والحال الرابعة: أن يُطْلِقها، ولا تكون له نيةٌ فيها، بيمين ولا غيره: فلا تكون يمينًا؛ لا يختلف فيه مذهبُ الشافعي؛ لأنه لم يقترن بها عُرف شرع، ولا عُرف استعمال، فخرجت عن حكم الأيمان". انتهى.
رابعًا:
قول الطالب للمطلوب منه: (والنبي تفعل كذا) أو (تعطيني كذا) له حالتان، بحسب نية القائل وقصده:
1- أن يقول: (والنبي تفعل كذا)، وهو يقصد بذلك أن يحلِف بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو بذلك يعقد اليمين لنفسه.
2- أن يقصد أن يُحلِّف المخاطَب بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مثل قول بعض العامة: (حلَّفتُك بالنبي أن تفعل كذا).
فأما الحلف بغير الله، فيتعلق به هنا ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن الحلف بغير الله حرام، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله تعالى، ولا فرق في ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم وغيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ثبت بالنصوص الصحيحة الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات، لا فرق في ذلك بين الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم ولا فرق بين نبي ونبي"، انتهى من "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" (237).
والأمر الثاني: أن هذا اليمين غير منعقد لا له ولا للمخاطَب المسئول، وليس فيه كفارة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الحلف بالمخلوقات لا تنعقد به اليمين، ولا كفارة فيه، حتى لو حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم لم تنعقد يمينه، كما تقدم ذكره، ولم يجب عليه كفارة عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، بل نهى عن الحلف بهذه اليمين"، انتهى من "مجموع الفتاوي" (1/286).
وقال الخطيب الشربيني من الشافعية: "وعُلم من حصر الانعقاد فيما ذكر، عدم انعقاد اليمين بمخلوقٍ، كالنبي وجبريل والكعبة ونحو ذلك، ولو مع قصده، بل يكره الحلف به إلا أن يسبق إليه لسانه"، انتهى من "الإقناع" (2/602)، ونحوه في "تحفة المحتاج" للهيتمي (10/4).
وقد سبق أن الصواب أن الحلف بالمخلوقات حرام، بل قد يكون كبيرة، وقد يصل بصاحبه إلى الكفر إن اعتقد في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في الله تعالى، وللفائدة ينظر جواب السؤال (308866).
وسبق أيضًا أن تحليف الإنسان لغيره لا ينعقد، فلا بد للإنسان أن يعقد اليمين لنفسه، هذا بالإضافة إلى عدم انعقاد اليمين بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته.
والأمر الثالث: أنه لا يجب إبرار هذا الحلف ولا يستحب، فإنه ليس يمينًا منعقدًا من الأصل، بل هو قول منكر يجب النهي عنه وتنبيه قائله، وأما القسَم الذي يشرع إبراره فهو الصحيح المنعقد، ليس المحرَّم غير المنعقد.
خامسًا:
قد عفا الله تعالى عن اللغو في الأيمان، بقوله عز وجل: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}، ومما جاء في تفسير اللغو في اليمن، أنه قول الحالف: (لا والله)، و(بلى والله)، ونحوه مما يتعجل به الإنسان غير قاصد، وهذا أمر شائع في لسان كثير من الناس، وهذا في ألفاظ الأيمان الصحيحة التي تنعقد كالحلف بالله وأسمائه وصفاته.
وينبغي الحرص على ترك لفظ الحلف بغير الله، ولو بغير قصد ولا عقد قلب، كالحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو غيره، وينبغي تنبيه من يفعل ذلك ولو سهوا، خاصة مع شيوع ذلك في بعض البلاد، وقد حذر بعض العلماء من التساهل في الحلف بالنبي رغم أنهم قالوا: لا تنعقد اليمين بذلك.
قال الشبراملسي الشافعي: "وينبغي للحالف أن لا يتساهل في الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم لكونه غيرَ موجِبٍ للكفارة، سيما إذا حلف على نية أن لا يفعل، فإن ذلك قد يجرُّ إلى الكفر، لعدم تعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم والاستخفاف به"، انتهى من "حاشيته على النهاية" (8/174).
سادسًا:
مما يتعجل به بعض الناس قوله: (بالله افعَلْ كذا) أو (أسألك بالله أن تجرب كذا)، فلا يكون عامدًا ولا عاقدًا قلبه أن يسأل بالله، مثل ما في السؤال، فهذا من الخطأ واللغو غير المعتد به، وهو معفو عنه، كما جاء في الحديث: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، رواه ابن ماجه (2045) وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" (1677).
ومما يؤكد أن هذا من اللغو؛ أن يكون القائل لا يتوجه بكلامه لشخص معين، أو جماعة معينين، بل يذكره في رسائل عامة على (الإنترنت)، ليوصله إلى عدد كبير من الناس، ثم لا يحرص على متابعة أجوبتهم غالبًا، بل قد لا تكون هناك طريقة ليعرف من أجابه ممن لم يجبه ولم يمتثل له، فلا ينبغي أخذ كلامه مأخذ الطلب الجاد، أو السؤال بالله، أو الحلف به أو نحو ذلك.
والله أعلم.